من تحت المطر.

 

 

في ليلة العاشر من يناير 2012 الساكنة ، تاقت نفسي الى قراءة كتاب عربيّ بليغ. أخذتُ ابحث بين الكُتب عن الكتاب المُناسب وإذا بكُتيّب اصفر قديم يشدّني. كان الكتاب بعنوان “الكتابة عملٌ إنقلابي” للإديب نزار قباني. اقتنيتُ هذا الكتاب من عميّ المرحوم واحتفظتُ به بعد وفاته. دوّن عمي اسمه كاملاً وتاريخ إقتنائهِ لهذا الكتاب 1/3/1402، اي قُرابة ثلاثين سنة .بدأت اقرأ بعدما ألهمتني صفحاتهِ الصفراء وطباعته القديمة. كل شيء كان شيّق في هذا الكتاب الذي كان عبارة عن مجموعة مقالات نُشرت في مجلة “الأسبوع العربي” خلال الاعوام 1973، 1974، 1975.

احببت الكتاب مباشرةً وسهرتُ تلك الليلة لقراءتة. أعجبني كثيراً العُمق الأدبي للكاتب نزار قباني، الغني عن التعريف. أُعجبت كثيراً ببراعة نزار ككاتب اكثر من كونه شاعراً، اسلوبه الكتابي رفيع جداً، استخدم الكاتب أساليب بديعيّة شتّى منها الكناية والتشبية والغموض، جَمَع الكاتب بين الأسلوبين الذاتيّ (الذي يُظهر مافي جُعبة الكاتب من آراء شخصية وافكار) وبين الأسلوب الموضوعي (الذي يتّسم بالموضوعية والمُحايدة). إختيار نزار لعناوين المقالات كان ايضاً بديعي و مميّز إذ اني لا استطيع التوقف عن القراءة حين اقرأ عنوان المقال التالي المشوق اكثر.

تَحَدث نزار عن مواضيع كثيرة ومتنوعة في كتابة، وكان اكثر ما يميّزها هو العمق السياسي لعصره. إذ انه – وكما اتصور- يحتاج إلى قارئ مُلّم كل الإلمام بعصر نزار السياسي على وجه الخصوص كي يتمكن من فهم معظم تلميحاته الغامضة بين اسطر هذا الكتاب. على الرغم من انيّ لا احب قراءة المواضيع السياسيّة ، كانت بلاغة هذا الكتاب الأدبية اكثر ،مما جعلني اُبحر بكل متعة بين جنباته.

 يحوي الكتاب حوالي 270 صفحة ، وما يقارب 54 مقال. وكعادتي في القراءة، احمل قلماً يساعدني في إنتقاء الاقتباسات الجميلة التي احببت ان اشارككم بها الآن:

” يبدو ان هناك مخططاً لقتل الخيول الجميلة في الوطن العربي.. والخيول التي اقصدها، هي خيول الشعر، التي ملأت سماوات الوطن العربي فرحاً وعنفواناً، وصهيلاً ، خلال السنوات الثلاثين الأخيرة.. حرب استنزاف من نوع جديد، تستهدفاغتيال كل ماهو جميل ونبيل في حياتنا الثقافية، وإجهاض كل الاشجار التي لا تزال واقفة على قدميها,, تطرح الظل، وتطرح الثمر.

والقتلة، هم مجموعة مرتزقة النقد، يتجولون بإسلحتهم غير المرّخصة.. ويطلقون الرصاص الطائش يميناً وشمالاً.. على كل شيء متحرك، ارضاء لشهوة القتل ، وطمعاً بشهرة سريعة ينالونها على حساب الخيول المقتولة. و أنا لا اكتب هنا دفاعاً عن الخيول لآن الاشياء المرتفعة لا تتأثر بإطلاق الرصاص عليها.. فلها من المناعة الزمنيّة والتاريخيّة ما يجعل إسقاطها نوعاً من الجريمة المستحيلة.”

” إن ظاهرة قتل النجوم أصبحت هذه الأيام تسلية المعقدين والفاشلين، الذين يمارسون عبادة الظلام، وينزعجون إذا بقيت نجمة واحدة تتلألأ في سماء الوطن العربي.”

” أتناول حبة فاليوم، وأحاول ان انام.. احاول ان ألغي بطريقة كيميائية حواسي الخمس. احاول ان اختم بالشمع الاحمر ابواب ذاكرتي.. لأمنع عصافير الماضي من مهاجمتي بمناقيرها الشرسة. احاول ان انساه بطريقة كيميائية.. ولكنه كان نخلة عمري.. فكيف يمكن لحبة الفاليوم ان تقطع شجر النخل؟ . ”

” كان الحب عندي عملية إنتحارية، اذهب اليها .. ووصيتي في جيبي.”

” اليوم يتذكر الجرح عيد ميلاده.. فيبكي. وتحتفل الدمعة بمرور عام على إنحدارها. ويحتفل الخنجر بمرور عام على إقامته في لحمي.. هل لاحظتم ان الجراح وحدها هي التي تملك ذاكرة قوية، وان الفرح لا ذاكرة له.. الفرح عصفور من زجاج.. يرتفع عن الارض عشرة امتار ثم يقع على الارض ويتهشم.. اما الحزن فهو هذه السنونوة السوداء التي تحمل اولادها، وتعشش على شواطئ العين، ومدخل القلب، وترفض ان ترحل …”

” ليس هناك شركة تأمين في العالم ترضى أن تؤمن على قلب شاعر.. لأنها تعرف بصورة مُسبقة أنها تراهن على كوم من القشّ قابل للإشتعال في كل لحظة.”

“نحن جميعاً في تصور قادة اسرائيل، كأسنان المشط.. وحلم العسكرية الإسرائيليّة هو أن تكسر أسنان المشط الواحد بعد الآخر.”

“إن أكبر عاهة من عاهات الفكر العربي هي هذه التوكيلة القاتلة في تفسير السياسية الدولية، وتحليل مقدماتها ونتائجها. فكل ما يصيبنا من خير أو شر هو في نظرنا أميركي أو روسي. والذين يرسمون مستقبل هذه المنطقة هم أمريكان أو روس. والذين يعرفون عدد شعرات رأسنا، ويعرفون في أي أرض نولد، وفي أي أرض نموت.. هم قادة البيت الأبيض.. أو قادة الكرملين. أما نحن فمُتفرجون في مسرحية الشرق الأوسط.. نضحك, ونبكي، ونصفق، ونحتج ونقذف الممثلين مرة بالورد.. ومرة بالبندورة.. ولا نحاول أبداً أن ننتقل من مقاعد المتفرجين إلى صفوف الممثلين. كل أبطالنا من ( بلاد برّه). وكل النصوص مكتوبة في (بلاد برّه). وكل المؤثرات الصوتية والديكورات وثياب الممثلين والممثلات من صنع (بلاد برّه).”

” انهم يريدون ان يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب. ويريدون ان يخوضوا البحر وهم يتزحلقون بقطرة ماء.. ويبشرون بثورة ثقافيّة تحرق الأخضر واليابس.. وثقافتهم لا تتجاوز باب المقهى الذي يجلسون  فيه.. وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها.”

 

وآخيراً، الحديث يطول عن براعة هذا الكتاب، كُلّ مافي الأمرِ هو اني حزنت كثيراً حينما أوشكت على إنهاءه، وحزنت اكثر حينما ودّعته، وها أنا الآن ارثيه..

شكراً لمن كان هُنا.. يقرأ حرفي ويهمّه أمري.

 

* كُتبت هذه التدوينة  (يوم الإربعاء 21 مارس )من تحت المطر، حول نغمات كاظم وبجانب فنجان القهوة الذي شارف على الإنتهاء.

 

هذا المنشور نشر في dairies, Uncategorized, أدب عربي. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق